
من أبغض الكتابات عندي، الحديث عن الذات ومشاغلها وأتراحها وأفراحها. كان الدكتور محمود قلندر كثيراً ما يحدثنا عن ضرورة النأي عن الذات والانشغال بالشأن العام، غير أن الضرورة أحياناً تفرض على الكاتب أن ينصرف من العام إلى الخاص.
قبل أيام، عدت من بورتسودان، العاصمة الإدارية الجديدة، بعد أيام طويلة بالمعاني، قصيرة بمقاييس الزمن. قضيتها برفقة ابنتي التي خضعت لعملية مناظير شديدة التعقيد. كان بالإمكان إجراء مثل هذه العملية في أم درمان، لولا أن الجنجويد – لعنة الله عليهم في الدنيا والآخرة – قضت بنادقهم على مستشفيات السودان، ونهبوا الأجهزة الحديثة ونقلوها خارج الحدود إلى دول كنا نحسبها صديقة، فإذا بالحرب تكشف ما تُضمره من حقد دفين على السودان، وهي التي جعلت أرضها سوقاً عالمياً لبيع المنهوب من بلادنا.
ومن حسنات الحرب – إن كانت لها حسنات كما قال ابن سينا – أنها تُهلك الأشرار، وتصطفي الأخيار، وتدفع في الهجرة إلى أرض الله الواسعة. وقد كسبت بورتسودان – إن جاز التعبير – أطباء أصحاب تخصصات نادرة، وأجهزة حديثة، خصوصاً في مجال عمليات المناظير.
الدكتور الإنسان سعد محمد علي، أجرى العملية لابنتي “مودة” في مستشفى دي ماس ببورتسودان. ورغم التكاليف الباهظة، فإن العناية الطبية الفائقة قلّلت من مدة الإقامة في مدينة أصبحت الأغلى في إفريقيا، خاصة في ظل السكن بفنادق بلا كهرباء ولا ماء.
كانت أياماً قاسية بين هم وجزع ووحشة وغربة، لم يُخفف منها إلا زيارات الأصدقاء والإخوان في المستشفى، وعلى رأسهم ابن العم الفريق شمس الدين كباشي، والفريق الكريم محمد الغالي، الأمين العام لمجلس السيادة، الذي ينوب عن الرئيس البرهان، ويسد كثيراً من الفجوات الاجتماعية.
كان للأصدقاء المكي إسماعيل قادم، وسعيد حبيب الله، ورجل الأعمال إبراهيم الكناني، ومحمد إدريس الصحافي الأنيق، حضور طيب. كما كان لمواقف حاج ماجد سوار، وعبدالماجد عبدالحميد، وهاشم العطار، أثر عميق في النفس.
أما “أمير حمر”، منعم عبدالقادر منعم منصور، فقد وضع مأساته الشخصية جانباً – ووالده مجهول المصير – وجاء بصحبة عروسه للمستشفى، وحمل ابنتي على يديه من غرفة العمليات. ولا أنسى أيضاً المواقف النبيلة للأخ الوفي عمر شيخ الدين، والأخ عبدالعظيم المعروف بـ”مرفعين كايقا”.
لم تنقطع مهاتفات ابن عمي الدكتور حامد البشير من الولايات المتحدة، ولا تواصُل الأخ عبدالله إبراهيم وكيل المالية، ولا زيارات الأخ بشارة سليمان، رغم مسؤولياته الكبيرة في قيادة حركة العدل والمساواة.
ووقفت إلى جانبي الأخت أم النصر، الصحفية المثابرة وابنة الجزيرة، والدكتورة شذى عثمان عمر الشريف، التي تؤهلها مواقفها وتاريخها لتكون وزيرة في حكومة كامل إدريس.
في الأيام الثلاثة بمستشفى دي ماس، شهدت حضوراً كثيفاً لأبناء جبال النوبة، حتى خُيّل إليّ أنني في سوق كادقلي الذي حُرمنا منه مرغمين بفعل عصابة آل دقلو.
شكراً للأطباء والممرضات، وشكراً للبروفيسور هجو على تواصله من خارج البلاد، وشكراً للفاتح حسن المهدي من تنزانيا، ولمولانا أحمد هارون، والبروفيسور سليمان الدبيلو، والدكتور يوسف عقار، مستشار المارشال أركو مني مناوي، والدكتور محمد آدم من المؤتمر الشعبي، والسلطان الشاذلي عبدالمجيد، رئيس اتحاد كرة القدم بولاية الخرطوم.
أما الأخ خالد جبر الله، وخمسين فضيلي، وزير غرب كردفان، فكان لمواقفهم أثر كبير، وكذلك الأخ عبدالله بلال، وخالد بخيت من الأبيض، الذين خففوا عنا كثيراً من الآلام.
هذا هو السودان الجميل، الذي تجمعه المصائب والمحن والمرض، وتتلاشى فيه الخلافات. السودان الذي سعى دعاة العنصرية والشرق إلى تخريبه، وكثير لم نكتب عنهم لا لضيق المساحة، ولا تجاهلاً لمواقفهم، لكنهم العشيرة الأقرب: محمد عبدالقادر، ومنعم رحمة، والنور أحمد النور، ومشاعر عثمان، وبكري المدني، والمسلمي البشير الكباشي مدير قناة الجزيرة، ومحمد محمد خير.
للجميع التقدير والاحترام. وقد تعافت مودة، بفضل دعوات صادقات.