
🔹في أحد صباحات مدينة بربر وبينما الشمس تتسلل بخجل بين سحب البارود والغبار شدني مشهد بسيط لكنه مثير للتأمل ، ركشة تسير أمامي وقد كتبت على (المنور) الخلفي عبارة: “مافي زول داير زول” قد تبدو العبارة لأول وهلة مزحة أو نوعا من التعبير عن “استقلالية” أو ملل اجتماعي وربما قالها أحدهم عابرا في لحظة انفعال ثم تحولت إلى “موضة” تلصق على الركشات وتتداول في منصات التواصل. لكن دعونا نتمهّل قليلا… فعبارات مثل هذه ليست بريئة دائما لأنها تحمل في طياتها منظورا فكريا وأخلاقيا يتسلل ببطء إلى وجدان المجتمع دون أن نشعر…..
🔹عزيزي القارئ “مافي زول داير زول” ليست مجرد جملة بل إعلان ضمني بالانسحاب من الروح الجمعية وتمجيد لفكرة الفردية المطلقة وهي نوع من التطبيع مع التفكك الاجتماعي وتسويغ لحالة التباعد العاطفي والاكتفاء الذاتي الزائف وكأن الإنسان يمكنه أن يعيش وحده دون سند أو شراكة أو مودة أو سؤال عن الآخر…..
🔹هذا النمط من التفكير يتغذى يوميا من تجارب الحرب، والخذلان، والأزمات، والمواقف القاسية. كثيرون جرحوا من علاقات أو خيبات أو ظروف قاهرة فاستنتجوا بعفوية أو قسوة أن أقصر الطرق للنجاة هو الانسحاب من الناس لكنهم نسوا أو تناسوا أن الإنسان كائن اجتماعي لا تكتمل إنسانيته إلا بالتواصل ولا تتجلى أخلاقه إلا في تعامله مع الآخر…..
🔹في الوطن نعيش اليوم واحدة من أعقد المراحل في تاريخ البلد الحديث حرب مستعرة شتتت الأسر ونزوح قسري دفع ملايين نحو المجهول واقتصاد يترنح ومؤسسات تنهار وشباب يتخبط بين الهجرة أو الحيرة أو اليأس وسط هذا المشهد تخيل أن يكون شعارنا “مافي زول داير زول” هل يمكن لمجتمع ممزق أن يداوي جراحه بمزيد من التفكك؟ هل نعالج فقدان الثقة بأن نعتنق العزلة؟ هل نظن أن النجاة ممكنة حين يقرر كل واحد أن “يقفل بابه عليه” وينسى من حوله؟….
🔹سوداننا القديم قبل أن يشوه بالمصالح السياسية والحرب كان يقوم على ثقافة الجيرة والسند، و”الضراع الفزاع” ففي الأرياف ما كان أحد ينام وجاره جائع وما كانت الأعراس تقام دون أن يشارك فيها الحي كله وما كان المريض يحتاج أن ينادي على أحد لأن الناس تأتي قبل أن تطلب لكن اليوم نخشى من الاتصال ببعضنا و نخاف من السؤال ومن الإجابة ونخاف أن “نتورط” في حياة أحد لأننا تعلمنا من الحرب لا عن وعي أن نحب أقل ونثق أقل ونعطي أقل وهنا تكمن الخطورة…..
🔹عزيزي القارئ ما نحتاجه الآن ليس فقط المصالحة السياسية بل المصالحة الاجتماعية نحتاج أن نعيد ترميم شبكة العلاقات وأن نواجه جراح الماضي بجسور الحاضر لا بجدران التجاهل و إن من أسوأ نتائج الحروب ليست فقط الجوع والدمار بل ما تفعله في وجدان الناس تحولهم من شعب يتقاسم اللقمة إلى كائنات خائفة و حذرة، متباعدة لكن النجاة يا سادتي لا تأتي من مزيد من الانغلاق بل من صوت يقول أنا محتاج ليك وأعرف إنك محتاج لي نقدر نقيف مع بعض ونقوم من جديد….
🔹بدلا من أن نكرر “مافي زول داير زول” فلنكتب على (المنور) الخلفي وعلى حوائط المدارس وعلى دفاتر أطفالنا “نحن لبعض والبلد لينا كلنا.” “المحنة بتكبر لما نكون بعيدين وبتصغر لما نتكاتف” “مافي زول بعيش براهو.” وهذه ليست شعارات رومانسية بل وصفة واقعية لإنقاذ مجتمع يتهاوى وخذ مثلا بسيطا لو أن كل واحد في الحي تعهد بأن يتفقد بيتين فقط من جيرانه يوم الجمعة فكم من عزلة سنكسر وكم من حاجة سنسد وكم من ضيق سنفرّج؟….
🔹”مافي زول داير زول” ليست حقيقة بل عدوى فكرية يجب أن نرفضها نحن نحتاج لبعضنا كما يحتاج الجسد لأعضائه نحتاج أن نرفع رؤوسنا في وجه التيار الذي يريد أن يجعل من الوحدة مذهبا ومن الغربة بين الجيران نمطا عصريا وفي زمن كهذا التكاتف لم يعد اختيارا بل شرط للبقاء فلنعد بأيدينا كتابة العبارة: “الزول داير الزول” ودايرين بعض أكتر من أي وقت مضى…..
🔹الي ان نلتقي……
٢٧ يونيو ٢٠٢٥م