
🔹في الأوساط الإدارية ومنصات الأخبار الرسمية وفي المجموعات المهنية وعلى مكاتب الاستعلامات لا يكاد يمضي وقت طويل حتى تطالعنا قرارات جديدة تحمل أسماء قادمة وأخرى راحلة. من أعفي ومن كلف، من ذهب ومن جاء، من حُرّك من موقع إلى آخر، ومن بدأ في كتابة سطره الأول داخل مؤسسة جديدة… وكأن المشهد العام بات مألوفا لدرجة أنه لم يعد يثير دهشة أحد…..لكن خلف هذا “المألوف” ثمة ما يستحق التأمل العميق، لا سيما حين لا يكون التغيير مبنيا على تقييم واضح أو تقارير أداء معلنة بل يأتي غالبا بلا مقدمات أو بأسلوب يوحي بأننا ندير مؤسساتنا بردة الفعل لا بخطة استشرافية ناضجة……
🔹التغييرات الإدارية المستمرة ليست بالضرورة شيئا سلبيا حين تكون ناتجة عن مراجعة حقيقية ومساءلة دقيقة أو عندما تقود إلى تحسين الأداء وتطوير المرافق والارتقاء بالخدمات فالمواقع الإدارية ليست منازل أبدية ولا ينبغي أن تعامل كإقطاعيات بل يجب أن تظل خاضعة للتدوير والتقييم متى ما استدعى الأمر….لكن السؤال هنا ليس عن “مشروعية التغيير” بل عن منهجه وأدواته وأهدافه فهل تتم هذه التغييرات وفق خطة وطنية لتجويد العمل العام أم أنها مجرد حركة في السطح تدار بمزاج اللحظة؟هل نحن فعلا أمام مراجعة مستمرة للمؤسسة أم أمام حالة دائمة من التردد الإداري والبحث المستمر عن “الخلاص الفردي”؟…..
🔹كل مسؤول يعفى حسب ما يفهم قد أخفق في موقعه أو لم يكن على قدر المسؤولية وكل من يكلف بعده يفترض أنه الأفضل والأجدر والأكثر قدرة فإذا صح ذلك فإن السؤال البديهي أين كانت معايير الاختيار في البداية؟ولماذا نمنح أشخاصا فرصا كاملة ثم نعفيهم بلا محاسبة واضحة أو تفسير؟…
🔹إن أخطر ما في التغيير العشوائي هو أنه يجعل الناس تفقد الثقة في المؤسسات ويكرس الانطباع بأن المناصب تدار بـ”التوازنات لا الكفاءات” و”المصالح لا الخطط”….
🔹عزيزي القارئ ثمة سؤال أكبر من مسألة الإعفاء أو التكليف هل نحن نؤمن بفكرة “المؤسسة”؟أم أن كل مسؤول يبدأ من الصفر؟
وكل إدارة تبدأ بمحو ما قبلها؟وكل مشروع يدفن بمجرد مغادرة من ابتدأه؟
هذه هي المعضلة الحقيقية لأن غياب الاستمرارية يفقد المؤسسات ذاكراتها ويجعلها تدور في حلقة مفرغة من البدايات المكرورة والتجريب المتواصل وكل بداية جديدة تبدو كأنها إنقاذ للمكان في حين أنها في أحيان كثيرة تكون مجرد “استبدال حارس” دون تغيير في طريقة اللعب….
🔹من المقلق جدا أن نلاحظ أن الكثير من المؤسسات عند تعيين مسؤول جديد تعود إلى نقطة الصفر تغيير في الخطط تعديل في السياسات وإعادة ترتيب المكاتب وربما تجميد الملفات السابقة بحجة أنها “تركة من العهد السابق”فهل نحن ندير بلدا أم نلعب بـ”المزرعة السعيدة”؟هل نراكم على ما سبق ونقيمه أم نبدأ في كل مرة من العدم وكأن لا أحد كان هنا قبلنا؟…..
🔹لن يتحقق الاستقرار الإداري إلا حين يصبح التغيير مبنيا على محاسبة موضوعية لا على الانطباعات والعلاقات والترضيات و حين تكون هناك تقارير دورية تعلن بشفافية يطلع عليها الجمهور ويعرف من نجح ومن أخفق ومن جدير بالبقاء ومن استنفد فرصه وحين تصبح المناصب تكليفا لا تشريفا ويقاس الأداء لا الولاء سنجد أن التغييرات حينها ستكون طبيعية ومقبولةلأنها ستكون نتاج نظام لا أهواء…..
🔹نحن لا نعارض التغيير ولن نكون من أنصاره العميان أيضا لكننا نسأل
أين الخطط التي تبنى على هذا التغيير؟
أين التقييم الصادق؟
أين الشفافية في معرفة لماذا غادر فلان ولماذا جاء فلان؟وهل يعقل أن تدار مؤسسات بأكملها دون أن يكون هناك ميثاق إداري أو جدول متابعة للأداء؟….
🔹حين ننظر إلى ما يحدث في الواقع الإداري نلاحظ أن كثيرا من الإدارات والمؤسسات قد تحولت إلى ما يشبه “غرف العبور” يدخلها المسؤول ليخرج منها قبل أن تكتمل خطته أو قبل أن يفهم خارطة التحديات التي تواجهه فتصبح فترات التعيين قصيرة والنتائج غائمة والتغيير أشبه بعملية “إزاحة” لا “إصلاح” والأدهى من ذلك أن بعض المسؤولين بحكم قصر فترات بقائهم في مواقعهم لا يفكرون في إحداث تغيير حقيقي بقدر ما يفكرون في “إثبات وجود سريع” حتى لو كان هذا الإثبات شكليا أو دعائيا فيسعون إلى إطلاق مشاريع في أيامهم الأولى دون دراسة أو مشاورةفقط لترك “بصمة” لا أكثر والبصمة غالبا تكون جرحا لا أثرا إيجابيا….
🔹ومن المثير للتساؤل كذلك أن التغييرات الإدارية تأتي في الغالب دون تقديم مبررات واضحة لا بيان يوضح لماذا أُعفي المدير السابق ولا تقرير يبين أسباب التبديل وكأن المؤسسات تدار في الظل بلا حق للجمهور في المعرفة ولا للمهنيين في التقييم و
في الوقت الذي يفترض فيه أن الإدارة عمل عام خاضع للرقابة والمساءلة والشفافية فأين مبدأ “من حق الناس أن تعرف”؟
أين ثقافة كشف الحقائق لا دفنها خلف قرارات صامتة؟وأين احترام عقول الموظفين والمجتمع الذي يتأثر بكل هذه التغييرات المتتالية؟…..
🔹 احبتي نحن لا نطلب المستحيل و نعلم أن المؤسسات تحتاج أحيانا إلى تغيير دمائها وتجديد الرؤى ونعلم أن هناك إخفاقات وتقصير وفشل في بعض المواقع لكننا نطلب بكل بساطة أن يكون ذلك مؤسسا على منهج واضح وأن تكون هناك سلسلة إدارية لا تنقطع كل مرة يأتي فيها مسؤول جديد وما نخشاه حقا هو أن نعتاد هذا الوضع المقلوب فنصبح في بلد كل مؤسساته في حالة “قيد التحديث” وكل مشاريعه “في بداية الطريق”وكل خططه “قيد الدراسة” وكل إداراته تستبدل قبل أن تختبر….
🔹إن أعظم ما تبتلى به الدول هو غياب الرؤية طويلة المدى وتغليب الولاء على الكفاءة وتحويل المناصب إلى هدايا سياسية أو مكافات اجتماعية بدلا من كونها أدوات لخدمة الوطن و
نحن بحاجة ماسة إلى سياسات ثابتة لا أشخاص متبدلين ونحن بحاجة إلى من يبني على ما أنجزه من قبله لا من يبدأ بهدم كل ما سبق ونحن بحاجة إلى عقول تدير لا أسماء تتكرر…..
🔹في الختام لسنا هنا لنهاجم ولا لندافع بل لنحاور هذه الظاهرة التي أصبحت عنوانا ثابتا في المشهد الإداري السوداني و تغيير بعد تغيير وتكليف بعد إعفاء دون أن يكون هناك تقييم شامل أو مسار تصحيحي واضح ونحن نكتب لأننا نؤمن أن الوطن لا يدار بالعاطفة ولا بالعجلة بل بالحكمة والتخطيط والمحاسبة و
نكتب لأننا نريد لمؤسساتنا أن تبنى على عقل جمعي لا على نزوات فردية
نكتب لأننا نريد إدارة وطن لا إدارة مزاج….
🔹الي نلتقي ….
٤ أغسطس ٢٠٢٥م