
🔹في حياة الإنسان محطات كثيرة لكن هناك محطة نعود إليها كل شهر بنفس القلق وبنفس الرجاء وبنفس الأمل الممزوج بالخوف… محطة المرتب فالمرتب ليس مجرد تحويل مالي ولا مجرد رقم يدخل في خانة الرصيد بل إنه خلاصة أيامك وعرقك ووقتك وأعصابك التي تستهلك في العمل ثم تتجمع في نهاية الشهر في شكل مال تنتظره لتفي بوعودك لأهلك ولنفسك….
🔹لكن في هذه البلاد التي صارت حتى الشمس فيها تتأخر في الشروق لا يأتي المرتب كما ينبغي… بل يبدأ حكاية جديدة لحظة خروجه من حسابك الأول وكأنه دخل في صحراء واسعة بلا طريق واضح…
🔹أفتح التطبيق البنكي و أضغط زر التحويل
وأراقب الشاشة كما يراقب الغريق قارب الإنقاذ… الرقم يختفي من حسابي فيرحل من يدي إلى المجهول فالبنك الأول يقول ببرود: “تم التحويل بنجاح” والبنك الثاني يرد ببرود أكبر: “لم يصل شيء” وبين هذه الجمل الجوفاء هناك إنسان يقف مذهولا يتساءل كيف يضيع حقي بهذه السهولة؟….
🔹المرتب يصبح عندها كائنا معلقا بين عالمين لا يعرف أين يستقر كأنه مسافر تقطعت به السبل يقف عند نقطة حدودية لا تعترف به أي دولة وربما الأسوأ من ضياعه المادي هو ضياعه المعنوي… أن تحرم من الشعور بالأمان المالي وتعيش في دوامة لا تعرف متى تخرج منها…
🔹أعود إلى البيت فأرى العيون تنتظر الخبر… طفل يسأل إن كان بإمكانه شراء كتاب جديد و زوجة تلمح لفاتورة الماء التي تنتظر و أم تتساءل عن مصروفات الشهر القادم أحاول أن أشرح أن المال “علق” في مكان ما لكن الكلمات تخونني لأن المعنى الحقيقي هو أننا صرنا أسرى لأنظمة مالية لا تعرف وجوهنا ولا تفهم أن وراء هذه الأرقام حيوات تنتظر…..
🔹الوجع ليس في مرة واحدة بل في التكرار القاتل كل شهر نفس المشهد نفس الأعذار و نفس الانتظار المر حتى يصبح التأخير عادة وكأنه بند رسمي في جدول صرف المرتبات وهنا يتسلل الإحباط ببطء… فتدرك أنك لست أمام مشكلة تقنية بل أمام خلل في فهم قيمة الوقت واحترام الإنسان وحقه في أن يعيش بكرامة…..
🔹عزيزي القارئ في الفلسفة يقال إن الزمن يقاس بما يتركه في النفس… والزمن الذي نقضيه في انتظار راتبنا الضائع يترك فينا شعورا بالمهانة أكثر من أي شيء آخر لأنك ببساطة تشعر أنك غريب أمام حقك واقف على بابه تستجديه بدل أن يأتيك في موعده بلا منازعة….
🔹قد يظن البعض أن الأمر بسيط مجرد تأخير… لكن الحقيقة أنه نزيف صامت يسرق من أعصابنا ومن احترامنا لأنفسنا ومن قدرتنا على أن نخطط لحياتنا فالمرتب الذي يتأخر يوما قد يؤخر فاتورة وقد يقطع خدمة وقد يؤجل علاجا وقد يكسر وعدا كنت قد قطعته لأحد أحبائك….
🔹احبتي ربما أكثر ما يؤلم أن هذا المشهد يتكرر حتى يختفي الغضب من داخلك ويحل مكانه نوع من الاستسلام… كأنك قبلت أن تعيش في مسرحية عبثية لا نهاية لها. مسرحية بطلها المرتب الذي يخرج من حسابك ليختبئ قليلا ويعود بعد أيام، تاركا خلفه تعبا أكبر من قيمته….
🔹في النهاية ليس ما نطلبه كثيرا… فقط أن نحصل على حقنا في وقته بلا إذلال ولا منازعة فاحترام مواعيد صرف المرتب ليس رفاهية بل هو احترام لإنسانية الإنسان نفسه وحتى يحدث ذلك سنظل نعيش هذه المأساة ونسردها كل شهر بمرارة تزداد مع كل تكرار وكأننا عالقون في مشهد لا يريد أن يسدل ستاره…..
🔹الي ان نلتقي…..
٩ أغسطس ٢٠٢٥م