
🔹يحكى أن جحا كان يملك ثورا قويا عاش معه سنوات طويلة يحرث له الأرض في أيام الحر القاسية ويجر له الماء من البئر في ليالي البرد ويمشي معه خطوة خطوة في كل مشوار يحتاج فيه إلى قوة وصبر وكان جحا يطعمه من قوت بيته ويحميه من المطر والشمس ويعامله كما يعامل أحد أبنائه فهو شريكه في الحياة اليومية لا مجرد حيوان يعمل ثم يترك وعندما كبر الثور وضعف عوده قرر جحا أن يذبحه ليستفيد من لحمه فإذا بالخبر ينتشر بين الجيران والأصحاب فجاء كل واحد يبتسم ويقول “قطعة صغيرة يا جحا، ما ح تنقص منك” وبدأ جحا يوزع وهو يقول في نفسه إنها مشاركة في الخير لكن كلما تقدم الصف نقص ما في القدر حتى كاد اللحم ينفد من بيته عندها نطق بجملته التي صارت مثلا تتناقله الألسن “جحا أولى بلحم توره”….
🔹اليوم بعد قرون من تلك الحكاية يعود المشهد نفسه ولكن هذه المرة ليس في ساحة بيت جحا بل في قاعات الجامعات ومكاتب الأساتذة فالأستاذ الجامعي هو جحا العصر لكن الثور هذه المرة ليس حيوانا يحرث الأرض بل هو العلم والخبرة والسنوات التي قضاها بين الكتب والمكتبات بين والمحاضرات والبحوث بين السهر الطويل على التحضير وبين الإجهاد المستمر في التصحيح والمتابعة والإشراف وهو الذي يدفع بعربة المعرفة إلى الأمام يحفر في عقول طلابه طرقا جديدة للفهم يزرع فيهم حلم التفوق ويضع لهم لبنات مستقبلهم لكنه حين يأتي موسم جني الثمار يجد نفسه في آخر الصف بينما القطع قد وزعت على آخرين لا علاقة لهم بالزرع ولا بالحرث…..
🔹الأستاذ الجامعي يعيش يومه على وقع هذا التناقض يدخل القاعة بابتسامة هادئة و يشرح و يحاور و يضرب الأمثلة ويستمع لاستفسارات طلابه بينما في داخله سؤال قديم يتكرر لماذا أنا مهمش في مجتمعي ومؤسستي؟ يخرج من الجامعة ليعود إلى بيته يمر على بائع الخضار فيحاول أن يشتري ما يكفي بيته بأقل القليل يفتح بريده الإلكتروني ليجد دعوة لحضور مؤتمر علمي في دولة أخرى لكن تكاليف السفر على نفقته الخاصة وإن لم يستطع فلن يمثل جامعته و يتلقى اتصالا من جهة ما تطلب منه إلقاء محاضرة توعوية أو المساهمة في ورشة تدريبية مجانا بالطبع وكأن وقته وجهده لا يساويان شيئا…..
🔹في الاجتماعات الرسمية تلقى الخطب عن دور الجامعات في النهضةوعن أهمية الأستاذ الجامعي في بناء الأجيال لكن بعد انتهاء الكلمات الرنانة تعود الأمور إلى ما كانت عليه رواتب لا تكفي بيئة عمل تفتقر لأبسط مقومات البحث مكتبات خاوية من المراجع الحديثة وأجهزة تحتاج إلى صيانةوأستاذ جامعي يواصل عمله لأنه ببساطة لا يعرف أن يعيش بلا أن يعلم حتى وإن كان ذلك على حسابه الخاص إنه أشبه بجحا الذي يوزع اللحم على الجيران بينما ثلاجته في البيت فارغة…
🔹عزيزي القارئ المفارقة الأكبر أن المجتمع لا يتذكر الأستاذ الجامعي إلا عند الحاجة حين يشتد الجدل حول قضية عامة يبحثون عن رأيه و حين تظهر كارثة صحية أو بيئية يطلبون منه تحليل الأسباب والحلول وحين تلمع الجامعة في ترتيب أكاديمي أو تحقق إنجازا علميا يضعون صورته في المنشورات الرسمية ولكن حين يفتح ملف الرواتب أو الدعم أو تحسين البيئة الأكاديمية تتقدم أولويات أخرى ويقال له “الوضع صعب سننظر في الأمر لاحقا” ذلك “اللاحقا” الذي صار وعدا مؤجلا منذ عشرات السنين…..
🔹إنه ظلم ناعم لا يقال فيه للأستاذ الجامعي صراحة أنه مهمش لكنه يلمسه في كل تفاصيل حياته في مكتبه الذي يفتقر إلى جهاز كمبيوتر حديث في مكتبة القسم التي لا تصلها آخر الإصدارات وفي البحوث التي يكتبها بجهده وماله و في المؤتمرات التي يحضرها بتمويل ذاتي و في الحوافز التي تصرف لغيره بينما هو صاحب الفضل الأول كل ذلك يضعه أمام الحقيقة المرة أنه مثل جحا تماما صاحب الشيء، لكنه آخر من يستفيد منه…..
🔹الأستاذ الجامعي ليس رفاهية ولا قطعة ديكور في منظومة الدولة هو الأساس الذي تبنى عليه العقول ومن دونه لا تقوم تنمية حقيقية وإن تقديره ليس منة ولا فضلا من أحد بل هو حق أصيل وشرط ضروري لبقاء قيمة التعليم نفسه إذا أردنا أن نحافظ على مكانة الجامعة فعلينا أن نضع الأستاذ في الصف الأول أن نمنحه ما يحتاج ليستمر في العطاء أن نجعل “اللحم” الذي هو ثمرة جهده يصل إليه قبل أن يتوزع على الآخرين.
لأن الحقيقة البسيطة التي فهمها جحا منذ قرون لا تزال صحيحة حتى اليوم صاحب الشيء أحق به ومن زرع وحصد يجب أن يكون أول من يتذوق ثمار عمله….
🔹إلى أن يدرك القائمون على الأمر هذه الحقيقة سيظل الأستاذ الجامعي واقفا في آخر الصف ينظر إلى القدر الفارغ ويتذكر المثل القديم وهو يبتسم بمرارة: “جحا أولى بلحم توره”… لكنه لم يذق منه شيئا……
🔹الي ان نلتقي….
١٠اغسطس ٢٠٢٥م